" طه "
" طه " من جملة الحروف المقطعة, المفتتح بها كثير من السور, وليست اسما للنبي, صلى الله عليه وسلم.
" ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى "
" مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى " أي: ليس المقصود بالوحي, وإنزال القرآن عليك, وشرع الشريعة, لتشقى بذلك, ويكون في الشريعة تكليف, يشق على المكلفين وتعجز عنه قوى العاملين.
وإنما الوحي, والقرآن والشرع, شرعه الرحيم الرحمن, وجعله موصلا للسعادة, والفلاح, والفوز, وسهله غاية التسهيل, ويسر كل طرقه وأبوابه, وجعله غذاء القلوب والأرواح, وراحة للأبدان.
فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة, بالقبول, والإذعان, لعلمها بما احتوى عليه, من الخير في الدنيا والآخرة, ولهذا قال:
" إلا تذكرة لمن يخشى "
" إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى " أي: إلا ليتذكر به من يخشى الله تعالى, فيتذكر ما فيه من الترغيب, لأجل المطالب, فيعمل بذلك, ومن الترهيب عن الشقاء والخسران, فيرهب منه, ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة, التي كانت مستقرا في عقله حسنها مجملا, فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله, ولهذا سماه الله " تذكرة " .
والتذكرة لشيء كان موجودا, إلا أن صاحبه غافل عنه, أو غير مستحضر لتفصيله.
وخص بالتذكرة " من يخشى " لأن غيره لا ينتفع به.
وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار, ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة؟ هذا ما لا يكون.
" سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى " .
ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم, وأنه تنزيل خالق الأرض والسماوات, المدبر لجميع المخلوقات.
أي: فاقبلوا تنزيله, بغاية الإذعان, والمحبة, والتسليم, وعظموه نهاية التعظيم.
" تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا "
وكثيرا ما يقرن بين الخلق والأمر, كما في هذة الآية, وكما في قوله: " أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ " وفي قوله: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ " وذلك أنه الخالق الآمر الناهي.
فكما أنه لا خالق سواه, فليس على الخلق إلزام, ولا أمر, ولا نهي إلا من خالقهم.
وأيضا, فإن خلقه للخلق, فيه من التدبير القدري الكوني, وأمره, فيه التدبير الشرعي الديني.
فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة, فلم يخلق شيئا عبثا, فكذلك لا يأمر ولا ينهى, إلا بما هو عدل, وحكمة, وإحسان.
فلما بين أنه الخالق المدبر, الآمر الناهي, أخبر عن عظمته وكبريائه, فقال:
" الرحمن على العرش استوى "
" الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ " الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها, وأوسعها.
" اسْتَوَى " استواء يليق بجلاله, ويناسب عظمته وجماله, فاستوى على العرش, واحتوى على الملك.
" له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى "
" لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا " من ملك وإنسي وجني, وحيوان, وجماد, ونبات.
" وَمَا تَحْتَ الثَّرَى " أي: الأرض, فالجميع ملك لله, تعالى, عبيد مدبرون مسخرون, تحت قضائه وتدبيره ليس لهم من الملك شيء, ولا يملكون لأنفسهم, نفعا ولا ضرا, ولا موتا, ولا حياة, ولا نشورا.
" وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى "
" وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ " الكلام الخفي " وَأَخْفَى " من السر, الذي في القلب, ولم ينطق به, أو السر: ما خطر على القلب " وأخفى " : ما لم يخطر, يعلم تعالى أنه يخطر في وقته, وعلى صفته.
المعنى: أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء, دقيقها, وجليها خفيها, وظاهرها.
فسواء جهرت بقولك أو أسررته, فالكل سواء, بالنسبة لعلمه تعالى.
فلما قرر كماله المطلق, بعموم خلقه, وعموم أمره ونهيه, وعموم رحمته, وسعة عظمته, وعلوه على عرشه, وعموم ملكه, وعموم علمه, نتج من ذلك, أنه المستحق للعبادة, وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع, والعقل, والفطرة.
وعبادة غيره باطلة, فقال:
" الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى "
" اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " أي: لا معبود بحق, ولا مألوه بالحب والذل, والخوف والرجاء, والمحبة والإنابة والدعاء وإلا هو.
" لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى " أي: له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى.
من حسنها, أنها كلها, أسماء دالة على المدح.
فليس فيها, اسم لا يدل على المدح والحمد ومن حسنها, أنها ليست أعلاما محضة, وإنما هي أسماء وأوصاف.
ومن حسنها, أنها دالة على الصفات الكاملة, وأن له من كل صفة, أكملها, وأعمها, وأجلها.
ومن حسنها, أنه أمر العباد أن يدعوه بها, لأنها وسيلة مقربة إليه, يحبها, ويحب من يحبها, ويحب من يحفظها, ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها, قال تعالى: " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " .
" وهل أتاك حديث موسى "
يقول تعالى لنبيه محمد, صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام التقريري.
والتعظيم لهذه القصة والتفخيم لها: " وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى " في حاله التي هي مبدأ سعادته, ومنشأ نبوته, أنه رأى نارا من بعيد, وكان قد ضل الطريق, وأصابه البرد, ولم يكن عنده, ما يتدفأ به في سفره.
" إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى "
" فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ " أي: أبصرت " نَارًا " وكان ذلك في جانب الطور الأيمن.
" لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ " تصطلون به " أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى " .
أي: من يهديني الطريق.
وكان مطلبه, النور الحسي والهداية الحسية.
فوجد ثم النور المعنوي, نور الوحي, الذي تستنير به الأرواح والقلوب, والهداية الحقيقية, هداية الصراط المستقيم, الموصلة إلى جنات النعيم.
فحصل له أمر, لم يكن في حسابه, ولا خطر بباله.
" فلما أتاها نودي يا موسى "
" فَلَمَّا أَتَاهَا " أي: النار التي آنسها من بعيد, وكانت - في الحقيقة - نورا, وهي نار تحرق وتشرق, ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " حجابه النور أو النار لو كشفه, لأحرقت سبحات وجهه, ما انتهى إليه بصره " فلما وصل إليها نودي منها أي: ناداه الله كما قال: " وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا "
" إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى "
" إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى " أخبره أنه ربه, وأمره أن يستعد ويتهيأ لمناجاته, ويهتم لذلك, ويلقى نعليه, لأنه بالوادي المقدس المطهر المعظم.
ولو لم يكن من تقديسه, إلا أنه اختار لمناجاته, كليمه موسى, لكفى.
وقد قال كثير من المفسرين: " إن الله أمره أن يلقي نعليه, لأنهما من جلد حمار " , فالله أعلم بذلك.
" وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى "
" وَأَنَا اخْتَرْتُكَ " أي: تخيرتك واصطفيتك من الناس.
وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم الله بها عليه, تقتضي من الشكر, ما يليق بها, ولهذا قال: " فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى " أي: ألق سمعك للذي أوحى إليك فإنه حقيق بذلك, لأنه أصل الدين ومبدأه, وعماد الدعوة الإسلامية.
" إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري "
ثم بين الذي يوحيه إليه بقوله: " إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا " أي: الله المستحق الألوهية المتصف بها, لأنه الكامل في أسمائه, وصفاته, المنفرد بأفعاله, الذي لا شريك له, ولا مثيل, ولا كفو ولا سمي.
" فَاعْبُدْنِي " بجميع أنواع العبادة, ظاهرها وباطنها, أصولها وفروعها.
ثم خص الصلاة بالذكر وإن كانت داخلة في العبادة, لفضلها وشرفها, وتضمنها عبودية القلب, واللسان, والجوارح.
وقوله: " لِذِكْرِي " اللام للتعليل أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي.
لأن ذكره تعالى, أجل المقاعد, وبه عبودية القلب, وبه سعادته.
فالقلب المعطل عن ذكر الله, معطل عن كل خير, وقد خرب كل خراب.
فشرع الله للعباد, أنواع العبادات, التي, المقصود منها, إقامة ذكره وخصوصا, الصلاة.
قال تعالى: " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ " .
أي: ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر.
وهذا النوع يقال له توحيد الإلهية, وتوحيد, العبادة فالألوهية, وصفه تعالى, والعبودية, وصف عبده.
" إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى "
" إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ " أي: لا بد من وقوعها " أَكَادُ أُخْفِيهَا " .
أي: عن نفسي كما في بعض القراءات, كقوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي " وقال: " وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ " .
فعلمها, قد أخفاه عن الخلائق كلهم, فلا يعلمها ملك مقرب, ولا نبي مرسل.
والحكمة في إتيان الساعة " لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى " من الخير والشر, فهي الباب لدار الجزاء " لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى " .
" فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى "
أي: فلا يصدك ويشغلك عن الإيمان بالساعة, والجزاء, والعمل لذلك, من كان كافرا بها, غير معتقد لوقوعها.
يسعى في الشك فيها, والتشكيك, ويجادل فيها, بالباطل, ويقيم من الشبه, ما يقدر عليه, متبعا في ذلك هواه, ليس قصده الوصول إلى الحق, وإنما قصاراه, اتباع هواه.
فإياك أن تصغي إلى من هذه حاله, أو تقبل شيئا, من أقواله وأعماله الصادرة عن الإيمان بها والسعي لها سعيها.
وإنما حذر الله تعالى عمن هذه حاله, لأنه من أخوف ما يكون على المؤمن, بوسوسته وتدجيله, وكون النفوس مجبولة على التشبه, والاقتداء بأبناء الجنس.
وفي هذا تنبيه وإشارة إلى التحذير, عن كل داع إلى باطل, يصد عن الإيمان الواجب, أو عن كماله, أو يوقع الشبهة في القلب.
وعن النظر في الكتب, المشتملة على ذلك.
وذكر في هذا, الإيمان به, وعبادته, والإيمان باليوم الآخر, لأن هذه الأمور الثلاثة, أصول الإيمان, وركن الدين, وإذا تمت تم أمر الدين, ونقصه أو فقده بنقصها, أو نقص شيء منها وهذه نظير قوله تعالى في الإخبار عن ميزان سعادة الفرق, الذين أوتوا الكتاب وشقاوتهم " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " .
وقوله " فَتَرْدَى " أي: تهلك وتشقى, إن اتبعت طريق من يصد عنها
" وما تلك بيمينك يا موسى "
وقوله تعالى: " وَمَا تِلْكَ " إلى " مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى " .
لما بين الله لموسى أصل الإيمان, أراد أن يبين له, ويريه من آياته, ما يطمئن به قلبه, وتقر به عينه, ويقوي إيمانه, بتأييد الله له على عدوه فقال: " وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى " هذا, مع علمه تعالى, ولكن لزيادة الاهتمام في هذا الموضع, أخرج الكلام بطريق الاستفهام.
فقال موسى: " هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي " ذكر فيها, هاتين المنفعتين, منفعة لجنس الآدمي, وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه, فيحصل فيها معونة.
ومنفعة للبهائم, وهو أنه كان يرعى الغنم, فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه, هش بها, أي: ضرب الشجر, ليتساقط ورقه, فيرعاه الغنم.
هذا الخلق الحسن من موسى عليه السلام, الذي من آثاره, حسن رعاية الحيوان البهيم, والإحسان إليه, دل على عناية من الله له واصطفاء, وتخصيص تقتضيه رحمة الله وحكمته.
" وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ " أي: مقاصد " أُخْرَى " غير هذين الأمرين.
ومن أدب موسى عليه السلام, أن الله لما سأله عما في يمينه, وكان السؤال محتملا عن السؤال عن عينها, أو منفعتها - أجابه بعينها, ومنفعتها فقال الله له: " أَلْقِهَا يَا مُوسَى
" قال ألقها يا موسى "
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى " انقلبت بإذن الله ثعبانا عظيما.
فولى موسى هاربا خائفا, ولم يعقب.
وفي وصفها بأنها تسعى, إزالة لوهم يمكن وجوده, وهو أن يظن أنها تخييل, لا حقيقة.
فكونها تسعى يزيل هذا الوهم
" قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى "
فقال الله لموسى: " خُذْهَا وَلَا تَخَفْ " أي: ليس عليك منها بأس.
" سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى " أي هيئتها وصفتها, إذ كانت عصا.
فامتثل موسى أمر الله, إيمانا به, وتسليما, فأخذها, فعادت عصاه التي كان يعرفها, هذه آية.
" واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى "
ثم ذكر الآية الأخرى فقال: " وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ " أي: أدخل يدك إلى جيبك,.
وضم عليك عضدك, الذي هو جناح الإنسان " تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " أي: بياضا ساطعا, من غير عيب ولا برص " آيَةً أُخْرَى " .
قال الله: " فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " .
" لنريك من آياتنا الكبرى "
" لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى " أي: فعلنا ما ذكرنا, من انقلاب العصا حية تسعى, ومن خرج اليد بيضاء للناظرين, لأجل أن نريك من آياتنا الكبرى, الدالة على صحة رسالتك, وحقيقة ما جئت به, فيطمئن قلبك, ويزداد علمك, وتثق بوعد الله لك, بالحفظ والنصرة, ولتكون حجة وبرهانا, لمن أرسلت إليهم.
" اذهب إلى فرعون إنه طغى "
لما أوحى الله إلى موسى, ونبأه, وأراه الآيات الباهرات, أرسله إلى فرعون, ملك مصر فقال: " اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى " أي: تمرد وزاد على الحد, في الكفر والفساد, والعلو في الأرض, والقهر للضعفاء, حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية, قبحه الله, أي: وطغيانه سبب لهلاكه.
ولكن من رحمة الله, وحكمته, وعدله, أنه لا يعذب أحدا, إلا بعد قيام الحجة بالرسل.
فحينئذ علم موسى عليه السلام, أنه تحمل حملا عظيما, حيث أرسل إلى هذا الجبار العنيد, الذي ليس له منازع في مصر من الخلق.
وموسى عليه السلام, وحده, وقد جرى منه ما جرى من القتل.
فامتثل أمر ربه, وتلقاه بالانشراح والقبول, وسأله المعونة, وتيسير الأسباب, التي هي من تمام الدعوة فقال:
" قال رب اشرح لي صدري "
" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي " أي: وسعه وأفسحه, لأتحمل الأذى القولي والفعلي, ولا يتكدر قلبي بذلك, ولا يضيق صدري, فإن الصدر إذا ضاق, لم يصلح صاحبه لهداية الخلق, ودعوتهم.
قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " وعسى الخلق يقبلون الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم.
" ويسر لي أمري "
" وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي " أي: سهل علي أمر أسلكه وكل طريق أقصده في سبيلك, وهون علي ما أمامي من الشدائد.
ومن تيسير الأمر, أن ييسر للداعي, أن يأتي جميع الأمور من أبوابها, ويخاطب كل أحد بما يناسب له, ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله.
" واحلل عقدة من لساني "
" وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي " وكان في لسانه ثقل لا يكاد يفهم عنه الكلام, كما قال المفسرون, وكما قال الله عنه أنه قال: " وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا " فسأل الله أن يحل منه عقدة, يفقهوا ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة, والمراجعة, والبيان عن المعاني.
" واجعل لي وزيرا من أهلي "
" وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي " أي: معينا يعاونني, ويؤازرني, ويساعدني على من أرسلت إليهم.
وسأل أن يكون من أهله, لأنه من باب البر, وأحق ببر الإنسان, قرابته.
ثم عينه بسؤاله فقال: " هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي " أي: قوني به: وشد به ظهري.
قال الله " سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا " .
" وأشركه في أمري "
" وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي " أي: في النبوة, بأن تجعله نبيا رسولا, كما جعلتني.
" كي نسبحك كثيرا "
ثم ذكر الفائدة في ذلك فقال: " كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا " علم, عليه الصلاة والسلام, أن مدار العبادات كلها والدين, على ذكر الله, فسأل الله أن يجعل أخاه معه, يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى, فيكثر منهما ذكر الله, من التسبيح, والتهليل, وغيره من أنواع العبادات.
" إنك كنت بنا بصيرا "
" إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا " تعلم حالنا, وضعفنا, وعجزنا, وافتقارنا إليك في كل الأمور.
وأنت أبصر بنا, من أنفسنا وأرحم, فمن علينا بما سألناك, وأجب لنا فيما دعوناك.
" قال قد أوتيت سؤلك يا موسى "
فقال الله: " قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى " أي: أعطيت جميع ما طلبت.
فسنشرح صدرك, ونيسر أمرك, ونحل عقدة من لسانك, يفقهوا قولك, ونشد عضدك, بأخيك هارون, " ونجعل لكما سلطانا, فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " .
وهذا السؤال من موسى عليه السلام, يدل على كمال معرفته بالله, وكمال فطنته ومعرفته للأمور, وكمال نصحه.
وذلك أن الداعي إلى الله, المرشد للخلق, خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد, والتكبر, والطغيان, يحتاج إلى سعة صدر, وحلم تام, على ما يصيبه من الأذى, ولسان فصيح, يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده.
بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام, من ألزم ما يكون, لكثرة المراجعات والمراوضات, ولحاجته لتحسين الحق, وتزيينه بما يقدر عليه, ليحببه إلى النفوس, وإلى تقبيح الباطل وتهجينه, لينفر عنه.
ويحتاج مع ذلك أيضا, أن يتيسر له أمره, فيأتي البيوت من أبوابها, ويدعو إلى سبيل الله, بالحكمة والموعظة الحسنة, والمجادلة بالتي هي أحسن, يعامل الناس كلا بحسب حاله.
وتمام ذلك, أن يكون لمن هذه صفته, أعوان ووزراء, يساعدونه على مطلوبه.
لأن الأصوات إذا كثرت, لا بد أن تؤثر, فلذلك سأله عليه الصلاة والسلام هذه الأمور, فأعطيها.
وإذا نظرت إلى حالة الأنبياء المرسلين إلى الخلق, رأيتهم بهذه الحال, بحسب أحوالهم.
خصوصا, خاتمهم وأفضلهم, محمد صلى الله عليه وسلم, فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال.
وله من شرح الصدر, وتيسير الأمر, وفصاحة اللسان, وحسن التعبير والبيان, والأعوان على الحق, من الصحابة, فمن بعدهم, ما ليس لغيره.
" ولقد مننا عليك مرة أخرى "
لما ذكر منته على عبده ورسوله, موسى بن عمران, في الدين, والوحي, والرسالة, وإجابة سؤله, ذكر نعمته عليه, وقت التربية, والتنقلات في أطواره فقال: " وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى " حيث ألهمنا أمك, أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع, خوفا من فرعون, لأنه أمر بذبح أبناء بني إسرائيل.
فأخفته أمه, وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت, ثم قذفته في اليم, أي: شط نيل مصر.
فأمر الله اليم, أن يلقيه في الساحل, وقيض الله أن يأخذه, أعدى الأعداء لله ولموسى, ويتربى في أولاده, ويكون قرة عين لمن رآه: ولهذا قال: " وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي " فكل من رآه أحبه " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي " أي ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي.
وأي نظر وكفالة, أجل وأكمل, من ولاية البر الرحيم, القادر على إيصال مصالح عبده, ودفع المضار عنه؟! فلا ينتقل من حالة إلى حالة, إلا, والله تعالى هو الذي في بر ذلك لمصلحة موسى.
ومن حسن تدبيره, أن موسى لما وقع في يد عدوه, قلقت أمه قلقا شديدا, وأصبح فؤادها فارغا, وكادت تخبر به, لولا أن الله ثبتها, وربط على قلبها.
" إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى "
ففي هذه الحالة, حرم الله على موسى المراضع, فلا يقبل ثدي امرأة قط, ليكون مآله إلى أمه, فترضعه, ويكون عندها, مطمئنة ساكنة, قريرة العين.
فجعلوا يعرضون عليه المراضع, فلا يقبل ثديا.
فجاءت أخت موسى, فقالت لهم " هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " .
" فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا " وهو القبطي لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها, وجد رجلين يقتتلان, واحد من شيعة موسى, والآخر من عدوه قبطي " فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه " .
فدعا الله وسأله المغفرة, فغفر له, ثم فر هاربا, لما سمع أن الملأ طلبوه, يريدون قتله.
" فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ " من عقوبة الذنب, ومن القتل.
" وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا " أي: اختبرناك, وبلوناك, فوجدناك مستقيما في أحوالك.
أو نقلناك في أحوالك, وأطوارك, حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
" فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ " حين فر هاربا من فرعون وملأه, حين أرادو قتله.
فتوجه إلى مدين, ووصل إليها, وتزوج هناك, ومكث عشر سنين, أو ثمان سنين.
" ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى " أي: جئت مجيئا, ليس اتفاقا من غير قصد, ولا تدبير منا, بل بقدر ولطف منا.
وهذا يدل على كمال اعتناء الله, بكليمه, موسى عليه السلام, ولهذا قال:
" واصطنعتك لنفسي "
" وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي " أي: أجريت عليك صنائعي ونعمي, وحسن عوائدي, وتربيتي, لتكون لنفسي حبيبا مختصا, وتبلغ في ذلك, مبلغا لا يناله أحد من الخلق, إلا النادر منهم.
وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين, وأراد أن يبلغ من الكمال المطلوب له ما يبلغ, يبذل غاية جهده, ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك.
فما ظنك بصنائع الرب القادر الكريم, وما تحسبه يفعل, بمن أراده لنفسه, واصطفاه من خلقه؟!!
" اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري "
لما امتن الله تعالى على موسى بما امتن به, من النعم الدينية والدنيوية قال له: " اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ " هارون " بِآيَاتِي " أي: الآيات التي مني, الدالة على الحق وحسنه, وقبح الباطل, كاليد, والعصا ونحوها, في تسع آيات إلى فرعون وملاءه.
" وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي " أي: لا تفترا, ولا تكسلا, عن مداومة ذكري بالاستمرار عليه, والزماه كما وعدتما بذلك " كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا " .
فإن ذكر الله, فيه معونة على جميع الأمور, يسهلها, ويخفف حملها.
" اذهبا إلى فرعون إنه طغى "
" اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى " أي: جاوز الحد, في كفره وطغيانه, وظلمه وعدوانه.
" فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى "
" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا " أي: سهلا لطيفا, برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف, ولا غلظة في المقال, أو فظاظة في الأفعال.
" لَعَلَّهُ " بسبب القول اللين " يَتَذَكَّرُ " ما ينفعه فيأتيه.
" أَوْ يَخْشَى " ما يضره فيتركه, فإن القول اللين, داع لذلك, والقول الغليظ, منفر عن صاحبه.
وقد فسر القول اللين في قوله: " فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى " .
فإن في هذا الكلام, من لطف القول وسهولته, وعدم بشاعته, ما لا يخفى على المتأمل.
فإنه أتى ب " هل " الدالة على العرض والمشاورة, التي لا يشمئز منها أحد, ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس, التي أصلها, التطهر من الشرك, الذي يقبله كل عقل سليم, ولم يقل " أزكيك " بل قال " تزكى " أنت بنفسك.
ثم دعاه إلى سبيل ربه, الذي رباه, وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة التي ينبغي مقابلتها بشكرها, وذكرها فقال: " وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى " فلما لم يقبل هذا الكلام اللين, الذي يأخذ حسنه بالقلوب, علم أنه لا ينجع فيه تذكير, فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر
" قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى "
" قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا " أي: يبادرنا بالعقوبة والإيقاع بنا, قبل أن نبلغه رسالاتك, ونقيم عليه الحجة " أَوْ أَنْ يَطْغَى " أي يتمرد عن الحق, ويطغى بملكه, وسلطانه, وجنده, وأعوانه.
" قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى "
" قَالَ لَا تَخَافَا " أن يفرط عليكما " إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى " أي: أنتما بحفظي ورعايتي, أسمع قولكما, وأرى جميع أحوالكما, فلا تخافا منه.
فزال الخوف عنهما, واطمأنت قلوبهما بوعد ربهما.
" فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى "
أي: فأتياه بهذين الأمرين, دعوته إلى الإسلام, وتخليص هذا الشعب الشريف, بني إسرائيل, من قيده وتعبيده لهم, ليتحرروا ويملكوا أمرهم, ويقيم فيهم موسى, شرع الله ودينه.
" قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ " تدل على صدقنا " فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ " إلى آخر ما ذكر الله عنهما.
" وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى " أي: من اتبع الصراط المستقيم, واهتدى بالشرع المبين, حصلت له السلامة في الدنيا والآخرة.
" إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى "
" إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا " أي: خبرنا من عند الله, لا من عند أنفسنا " أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى " أي: كذب بأخبار الله, وأخبار رسله, وتولى عن الانقياد لهم, واتباعهم.
وهذا فيه الترغيب لفرعون بالإيمان والتصديق واتباعهما, والترهيب من ضد ذلك.
ولكن لم يفد فيه هذا الوعظ والتذكير, فأنكر ربه, وكفر, وجادل في ذلك, ظلما وعنادا.
" قال فمن ربكما يا موسى "
أي قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: " فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى " .
فأجاب موسى بحواب شاف كاف واضح قال: " رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات, وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به, على حسن صنعه من خلقه, من كبر الجسم وصغره, وتوسطه, وجميع صفاته.
" ثُمَّ هَدَى " كل مخلوق إلى ما خلقه له, وهذه الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات.
فكل مخلوق, تجده يسعى لما خلق له من المنافع, وفي دفع المضار عنه.
حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم, من العقل, ما يتمكن به به من ذلك.
وهذا كقوله تعالى: " الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ " .
فالذي خلق المخلوقات, وأعطاها خلقها الحسن, الذي لا تقترح العقول فوق حسنه, وهداها لمصالحها, هو الرب على الحقيقة.
فإنكاره, إنكار لأعظم الأشياء وجودا, وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب.
فلو قدر أن الإنسان, أنكر من الأمور المعلومة, ما أنكر, كان إنكاره لرب العالمين, أكبر من ذلك.
" قال فما بال القرون الأولى "
ولهذا لما لم يمكن فرعون, أن يعاند هذا الدليل القاطع, عدل إلى المشاغبة, وحاد عن المقصود فقال لموسى: " فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى " .
أي: ما شأنهم, وما خبرهم وكيف وصلت بهم الحال, وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر, والظلم, والعناد, ولنا فيهم أسوة؟
" قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى "
فقال موسى: " عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر, وكتبه في كتابه, وهو اللوح المحفوظ, وأحاط به علما وخبرا فلا يضل عن شيء منها, ولا ينسى ما علمه منها.
ومضمون ذلك, أنهم قدموا إلى ما قدموه, ولاقوا أعمالهم, وسيجازون عليها.
فلا معنى لسؤالك واستفهامك, يا فرعون, عنهم, فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت, ولكم ما كسبتم.
فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك, والآيات التي أريناكها, قد تحققت صدقها ويقينها, وهو الواقع, فانقد إلى الحق, ودع عنك الكفر والظلم, وكثرة الجدال بالباطل.
وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستيقنة, فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق فرد الدليل بالدليل, والبرهان بالبرهان, ولن تجد لذلك سبيلا, ما دام الملوان.
كيف وقد أخبر الله عنه, أنه جحدها مع استيقانها, كما قال تعالى " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " .
وقال موسى: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ " .
فعلم أنه ظالم في جداله, قصده, العلو في الأرض.
" الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى "
ثم استطرد في هذا الدليل القاطع, بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري, فقال: " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا " أي: فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها, والقرار, والبناء, والغراس, وإثارتها للازدراع وغيره, وذللها لذلك, ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم.
" وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا " أي: نفذ لكم الطرق الموصلة, من أرض, إلى أرض, ومن قطر إلى قطر, حتى كان الآدميون, يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون, وينتفعون بأسفارهم, أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.
" وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى " .
أي: أنزل المطر " فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " وأثبت بذلك جميع أصناف النباتات على اختلاف أنواعها, وتشتت أشكالها, وتباين أحوالها.
فساقه, وقدره, ويسره ورزقا لنا ولأنعامنا, ولولا ذلك, لهلك من عليها من آدمي وحيوان.
" كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى "
ولهذا قال: " كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ " وساقها على وجه الامتنان, ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النباتات الإباحة, فلا يحرم منهم, إلا ما كان مضرا, كالسموم ونحوه.
" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى " أي: لذوي العقول الرزينة, والأفكار المستقيمة على فضل الله, وإحسانه, ورحمته, وسعة جوده, وتمام عنايته, وعلى أنه الرب المعبود, المالك المحمود, الذي لا يستحق العبادة سواه, ولا الحمد والمدح والثناء, إلا من امتن بهذه النعم, وعلى أنه على كل شيء قدير.
فكما أحيا الأرض بعد موتها, إن ذلك لمحيي الموتى.
وخص الله أولي النهى بذلك, لأنهم المنتفعون بها, الناظرون إليها نظر اعتبار.
وأما من عداهم, فإنهم بمنزله البهائم السارحة, والأنعام السائمة, لا ينظرون إليها, نظر اعتبار ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها.
بل حظهم, حظ البهائم, يأكلون ويشربون, وقلوبهم لاهية, وأجسادهم معرضة.
" وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ " .
" منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى "
ولما ذكر كرم الأرض, وحسن شكرها لما ينزله الله عليها من المطر, وأنها بإذن ربها, تخرج النبات المختلف الأنواع - أخبر أنه خلقنا منها, وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها, ومنها يخرجنا تارة أخرى.
فكما أوجدنا منها من العدم, وقد علمنا ذلك, وتحققناه, فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا, ليجازينا بأعمالنا, التي عملناها عليها.
وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان: إخراج النبات من الأرض بعد موتها, وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.
" ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى "
يخبر تعالى, أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع, جميع أنواعها العيانية, والأفقية والنفسية, فما استقام ولا ارعوى, وإنما كذب وتولى.
كذب الخبر, وتولى عن الأمر والنهي, وجعل الحق باطلا, والباطل حقا, وجادل بالباطل, ليضل الناس فقال: " أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ " .
زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى, سحر وتمويه, المقصود منها, إخراجهم من أرضهم, والاستيلاء عليها, ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه.
فإن الطباع, تميل إلى أوطانها, ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها.
فأخبرهم أن موسى هذا قصده, ليبغضوه, ويسعوا في محاربته, فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا, واجعل لنا " مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى " أي: مستو علمنا وعلمك به, أو مكانا مستويا معتدلا لتتمكن من رؤية ما فيه.
" قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى "
فقال موسى: " مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ " وهو عيدهم, الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم.
" وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى " أي: يجمعون كلهم في وقت الضحى.
وإنما سأل موسى ذلك, لأن يوم الزينة ووقت الضحى فيه يحصل كثرة الاجتماع, ورؤية الأشياء على حقائقها, ما لا يحصل في غيره.
" فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى "
" فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ " أي: جميع ما يقدر عليه, مما يكيد به موسى.
فأرسل في مدائنه, من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم.
وكان السحر إذ ذاك, متوافرا, وعلمه مرغوبا فيه.
فجمع خلقا كثيرا من السحرة, ثم أتى كل منهما للموعد, واجتمع الناس للموعد.
فكان الجمع حافلا, حضره الرجال والنساء, والملأ, والأشراف, والعوام, والصغار, والكبار, وحضوا الناس على الاجتماع وقالوا للناس " هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ " .
فحين اجتمعوا من جميع البلدان, وعظهم موسى عليه السلام, وأقام الحجة عليهم, وقال لهم:
" قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى "
" وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ " أي: لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق, وتفترون على الله الكذب فيستأصلكم بعذاب من عنده, ويخيب سعيكم وافتراؤكم, فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملائه, ولا تسلموا من عذاب الله.
" فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى "
وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب, لا جرم, ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة, لما سمعوا كلام موسى, وارتبكوا.
ولعل من جملة نزاعهم, الاشتباه في موسى, هل هو على الحق أم لا؟ ولكن هم إلى الآن, ما تم أمرهم, ليقضي الله أمرا كان مفعولا, " لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ " .
فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى, وأنهم ينفقون على مقالة واحدة, لينجحوا في مقالهم وفعالهم, وليتمسك الناس بدينهم.
" قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى "
والنجوى التي أسروها وفسرها, بقوله: " قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا " كمقالة فرعون السابقة.
فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد.
وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته, التي صمم عليها, وأظهرها للناس.
وزادوا على قول فرعون أن قالوا: " وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى " أي: طريقة السحر حسدكم عليها, وأراد أن يظهر عليكم, ليكون له الفخر والصيت والشهرة, ويكون هو المقصود بهذا العلم, الذي شغلتم زمانكم فيه ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه, وما يتبع ذلك من الرياسة.
وهذا حض من بعضهم على بعض, على الاجتهاد في مغالبته, ولهذا قالوا:
" فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى "
" فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ " أي: أظهروه دفعة واحدة, متظاهرين متساعدين فيه, متناصرين, متفقا رأيكم وكلمتكم.
" ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا " ليكون أمكن لعملكم, وأهيب لكم في القلوب, ولئلا يشرك بعضكم بعض مقدوره من العمل.
واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره, فإنه المفلح الفائز, فهذا يوم له ما بعده من الأيام.
" قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى "
فما أصلبهم في باطلهم, وأشدهم فيه, حيث أتوا بكل سبب, ووسيلة وممكن, ومكيدة يكيدون بها الحق.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره, ويظهر الحق على الباطل.
فلما تمت مكيدتهم, وانحصر قصدهم, ولم يبق إلا العمل " قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ " عصاك " وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى " .
خيروه, موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه, بأي حالة كانت.
" قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى "
فقال لهم موسى: " بَلْ أَلْقُوا " فألقوا حبالهم وعصيهم.
" فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ " أي: إلى موسى " مِنْ سِحْرِهِمْ " البليغ " أَنَّهَا تَسْعَى " فلما خيل إلى موسى ذلك.
" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى " كما هو مقتضى الطبيعة البشرية, وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره.
" قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى "
" قُلْنَا " له تثبيتا وتطمينا: " لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى " عليهم, أي ستعلو عليهم وتقهرهم, ويذلوا لك ويخضعوا.
" وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى "
" وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ " أي: عصاك " تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى " أي: كيدهم ومكرهم, ليس بمثمر لهم, ولا ناجح فإنه من كيد السحرة, الذين يموهون على الناس, ويلبسون الباطل ويخيلون أنهم على الحق.
فألقى موسى عصاه, فتلقفت ما صنعوا كله, وأكلته, والناس ينظرون لذلك الصنيع.
فعلم السحرة علما يقينا, أن هذا ليس بسحر, وأنه من الله, فبادروا للإيمان.
" فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى "
" فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا " برب العاليمن, " رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ " .
فوقع الحق وظهر وسطع, وبطل السحر والمكر والكيد, في ذلك المجمع العظيم.
" قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى "
فصارت بينة ورحمة للمؤمنين, وحجة على المعاندين فـ " قَالَ " فرعون للسحرة: " آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ " أي: كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن؟ استغرب ذلك منهم, لأدبهم معه, وذلهم, وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم, وجعل هذا من ذاك.
ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان, واستخف بقوله قومه, وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة, ليس لأن الذي معه الحق, بل لأنه تمالأ هو والسحرة, ومكروا, ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم.
فقبل قومه هذا المكر منه, وظنوه صدقا " فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " مع أن هذه المقالة التي قالها, لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع.
فإن موسى, أتى من مدين وحيدا.
وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم, بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه, وأراهم الآيات.
فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به موسى, فسعى ما أمكنه, وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم.
فجاءوا إليه, ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة, وهم حرصوا غاية الحرص, وكادوا أشد الكيد, على غلبتهم لموسى, وكان منهم ما كان فهل يمكن, أن يتصور مع هذا, أن يكونوا دبروا, هم وموسى, واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال.
ثم توعد فرعون السحرة فقال: " لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ " كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد, يقطع يده اليمنى, ورجله اليسرى.
" وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ " أي: لأجل أن تشهروا وتختزوا.
" وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى " يعني بزعمه هو وأمته, وأنه أشد عذابا من الله, وأبقى قلبا للحقائق, وترهيبا لمن لا عقل له.
" قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا "
ولهذا لما عرف السحرة الحق, ورزقهم الله من العقل, ما يدركون به الحقائق, أجابوا بقولهم: " لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ " الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده, المعظم المبجل وحده, وأن ما سواه باطل, ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا.
هذا لا يكون " فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ " مما أوعدتنا له, من القطع, والصلب, والعذاب.
" إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا " أي: إنما توعدنا به, غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا, ينقضي ويزول ولا يضرنا.
بخلاف عذاب الله, لمن استمر على كفره, فإنه دائم عظيم.
وهذا كأنه جواب منهم لقوله: " وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى " .
وفي هذا الكلام, من السحرة, دليل على أنه ينبغي للعاقل, أن يوازن بين لذات الدنيا, ولذات الآخرة, وبين عذاب الدنيا, وعذاب الآخرة.
" إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى "
" إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا " أي: كفرنا ومعاصينا, فإن الإيمان مكفر السيئات, والتوبة تجب ما قبلها.
وقولهم, " وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ " الذي عارضنا به الحق, هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم, وإذا أكرههم فرعون إكراها.
والظاهر - والله أعلم - أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله " وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ " أثر معهم, ووقع منهم موقعا كبيرا, ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة.
ثم إن فرعون ألزمهم ذلك, وأكرههم على المكر الذي أجروه, ولهذا تكلموا بكلامه السابق, قبل إتيانهم, حيث قالوا: " إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا " فجروا على ما سنه لهم, وأكرههم عليه.
ولعل هذه النكتة, التي قامت بقلوبهم, من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم, ما فعلوا على وجه الإغماض, هي التي أثرت معهم, ورحمهم الله بسببها, ووفقهم للإيمان والتوبة.
والله خير مما أوعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه, وأبقى ثوابا وإحسانا لا ما يقول فرعون " وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى " يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون, يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة, أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب, ولم يذكر أنه فعل ذلك, ولم يأت في ذلك حديث صحيح.
والجزم بوقوعه, أو عدمه, يتوقف على الدليل, والله أعلم بذلك وغيره.
" إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا "
يخبر تعالى أن من أتاه, وقدم عليه مجرما - أي: وصفه الجرم من كل وجه, وذلك يستلزم الكفر - استمر على ذلك حتى مات, فإن له نار جهنم, الشديد نكالها, العظيمة أغلالها, البعيد قعرها, الأليم حرها وقرها, التي فيها من العقاب, ما يذيب الأكباد والقلوب.
ومن شدة ذلك, أن المعذب فيها, لا يموت ولا يحيا, لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة يتلذذ بها, وإنما حياته, محشوة بعذاب القلب, والروح, والبدن, الذي لا يقدر قدره, ولا يفتر عنه ساعة, يستغيث فلا يغاث, ويدعو فلا يستجاب له.
نعم إذا استغاث, أغيث بماء كالمهل, يشوي الوجوه, وإذا دعا, أجيب بـ " اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " .
ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله, متبعا لكتبه " قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ " الواجبة والمستحبة, " فَأُولَئِكَ لَهُمُالدَّرَجَاتُ الْعُلَا " أي: المنازل العاليات, في الغرف المزخرفات, واللذات المتواصلات, والأنهار السارحات, والخلود الدائم, والسرور العظيم, فيما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر كل قلب بشر.
" وَذَلِكَ " الثواب, " جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى " أي: تطهر من الشرك, والكفر, والفسوق, والعصيان.
إما أن لا يفعلها بالكلية, أو يتوب مما فعله منها.
وزكى أيضا نفسه, ونماها بالإيمان والعمل الصالح.
فإن للتزكية معنيين, التنقية, وإزالة الخبث, والزيادة بحصول الخير.
وسميت الزكاة زكاة, لهذين الأمرين.
" ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى "
لما ظهر موسى بالبراهين, على فرعون وقومه, مكث في مصر, يدعوهم إ